فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله: {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ}.
هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة، وقد كان من قبل شرطًا في كل القتال وفي الأشهر الحرم. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
كما جاء في الصحيحين: «إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى خَلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم».
يعني بذلك- صلوات الله وسلامه عليه- قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
وقد حكى القرطبي: أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة: نسخها قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة: 5]. قال مقاتل بن حيان: نسخها قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وفي هذا نظر. اهـ.

.قال الجصاص:

وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أُظْفِرْنَا بِهِمْ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي قِتَالِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَاتَلَنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ مَحْظُورٌ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ قَتْلِ أَهْلِ الصَّوَامِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الْأَمْرَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَنَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ دُونَ مَنْ كَفَّ عَنَّا مِنْهُمْ، وَكَانَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} نَهْيًا عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} لِإِيجَابِهِ قَتْلَ مَنْ حُظِرَ قَتْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} إذْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَوْلُهُ: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: مِنْ مَكَّةَ إنْ أَمْكَنَكُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا آذَوْا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانُوا مُخْرِجِينَ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فَرْضِهِ الْقِتَالَ بِإِخْرَاجِهِمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ؛ إذْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} عَامًّا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا فِيمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إلَّا لِمَنْ قَاتَلَهُمْ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ حِينَئِذٍ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فِيمَنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الجملة معطوفة على جملة {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله: {حيث ثقفتموهم} أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله: {مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامنًا} [آل عمران: 97]، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدًا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.
وجعلت غاية النهي بقوله: {حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين. فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وفي قوله تعالى: {فاقتلوهم} تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذٍ ولو في غير اشتباك معهم بقتال، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله: {فاقتلوهم} لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال.
فقوله تعالى: {فإن قاتلوكم} أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجئون إليه إذا انهزموا.
وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله: {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 190] إلى قوله هنا {كذلك جزاء الكافرين} حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضًا؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلًا عن سابقه وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالًا لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدًا لحرمة المسجد الحرام. اهـ.
سؤال: لم عدل عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ في قوله تعالى: {فاقتلوهم}؟
الجواب: في العُدول عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة. اهـ.
وقال ابن عاشور:
وقوله: {كذلك جزاء الكافرين}، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله: {فاقتلوهم} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله: {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا} [البقرة: 143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم؛ وهذا تهديد لهم، فقوله: {كذلك} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 190] لأن المقاتلة ليست جزاء؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يومًا بيوم. اهـ.

.قال الألوسي:

{كذلك جَزَاء الكافرين} تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والكافرين إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيًا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولًا أوليًا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم. اهـ.

.قال أبو حيان:

المعنى: جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء، وهو القتل، أي: من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الانتهاء: أصله مطاوع نهى يقال: نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة:
لقد نهيت بني ذبيان عن أُقُرٍ ** وعن تَرَبُّعهم في كل إصفار

أي عن الوقوع في ذلك. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزول وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله، فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم، ونظيره قوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وفي الآية مسائل:

.المسألة الأولى: معنى الانتهاء:

قال ابن عباس: فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن: فإن انتهوا عن الشرك.
حجة القول الأول: أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله: {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} محمولًا على ترك المقاتلة.
حجة القول الثاني: أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال، بل بترك الكفر.

.المسألة الثانية: ما يحصل به الانتهاء عن الكفر:

الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما: التوبة والآخر التمسك بالإسلام، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين: إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط.
أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا.

.المسألة الثالثة: التوبة من كل ذنب:

دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة، وقول من قال: التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ، لأن الشرك أشد من القتل، فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى، وأيضًا فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافرًا كونه قاتلًا.
فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلًا مقبولًا والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} أي: عن الكفر، ودخلوا في الإسلام، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار، وقيل: فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك، لتقدمهما في الكلام، وهو حسن، وقيل: عن القتال دون الكفر، وليس الغفران لهم على هذا القول، بل المعنى: فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم، وقيل: الجواب محذوف، أي: فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم، وعلى قول: إن الانتهاء عن القتال فقط، تكون الآية منسوخة، وعلى القولين قبله تكون محكمة، ومعنى: انتهى: كف، وهو افتعل من النهي، ومعناه فعل الفاعل بنفسه، وهو نحو قولهم: اضطرب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها: افتعل.
قالوا: وفي قوله: {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} دلالة على قبول توبة قاتل العمد، إذ كان الكفر أعظم مأثمًا من القتل، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قوله جلَّ ذكره: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
يعني عليكم بنصب العداوة مع أعدائي- كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائي- فلا تُشْفِقُوا عليهم وإن كان بينكم واصد الرحم ووشائج القرابة.
{وأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}: أولًا أَخْرِجُوا حبَّهم وموالاتهم من قلوبكم، ثم أخرجوهم عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جاريًا عليهم. اهـ.

.فائدة في ذكر القراءات في قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه}:

قرأ الجمهور: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} ثلاثتها بألف بعد القاف، وقرأ حمزة والكسائي: «ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم» بدون ألف بعد القاف، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلًا بعد أن صار مقتولًا؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا إنه يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله:
غَضِبت تميم أَنْ تُقتَّل عامر ** يوم النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَم

والمعنى ولا تقتلوا أحدًا منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد قتلوا إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد. وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة. اهـ.

.قال الماوردي:

وإنما سمي الكفر فتنة، لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة. اهـ.

.فوائد في الآية الكريمة:

وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال: لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق. قال ابن خويز منداد: وأما قوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} فيجوز أن يكون منسوخًا بقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [البقرة: 193].
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارًا من القصاص والعقوبة فقال مالك: بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقًا.
وبالحديث الذي رواه في الموطأ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتلوه» وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذٍ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف، فكذلك عياذ الجاني به، وبمثل قوله قال الشافعي، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله، وقال أبو حنيفة: لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلاّ إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد.
قال ابن العربي في الأحكام: حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس، فقال القاضي الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني: سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأجاب بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} فإن قرئ {ولا تقتلوهم} فالآية نص وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهي تنبيه، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلًا بينًا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرًا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي، فإن الآية التي اعترضتَ بها عامة في الأماكن والتي احتججتُ بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إن العام ينسخ الخاص فأُبْهِت القاضي الزنجاني، وهذا من بديع الكلام. اهـ.
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. وأما قول الحنفية وبعض المالكية: إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذٍ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
وقال ابن العربي في الأحكام: الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وهو مما شمله قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام}. اهـ.